سورة المائدة - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


قوله تعالى: {يسألونك ماذا أحل لهم} في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بقتل الكلاب، قال الناس: يا رسول الله ماذا أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت هذه الآية، أخرجه أبو عبد الله الحاكم في صحيحه من حديث أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان السبب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها أن جبريل عليه السلام استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن له، فلم يدخل وقال: «إِنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة» فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو.
والثاني: أن عدي بن حاتم، وزيد الخيل الذي سمّاه رسول الله: زيد الخير، قالا: يا رسول الله إِنا قومٌ نصيد بالكلاب والبُزاة، فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه مالا ندرك ذكاته، وقد حرّم الله الميتة، فماذا يحلُّ لنا منها، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير. قال الزجاج: ومعنى الكلام: يسألونك أي شيء أُحل لهم؟ قل: أُحلّ لكم الطيبات، وأُحل لكم صيد ما علّمتم من الجوارح، والتأويل أنهم سألوا عنه ولكن حذف ذكر صيد ما علمتم، لأن في الكلام دليلاً عليه.
وفي الطيبات قولان:
أحدهما: أنها المباح من الذبائح.
والثاني: أنها ما استطابه العربُ مما لم يحرّم. فأما الجوارح فهي ما صيد به من سباع البهائم والطير، كالكلب، والفهد، والصقر، والبازي، ونحو ذلك مما يقبل التعليم. قال ابن عباس: كل شيءٍ صاد فهو جارح.
وفي تسميتها بالجوارح قولان:
أحدهما: لكسب أهلها بها. قال ابن قتيبة: أصل الاجتراح: الاكتساب، يقال: امرأة لا جارح لها، أي: لا كاسب.
والثاني: لأنها تجرح ما تصيد في الغالب، ذكره الماوردي. قال أبو سليمان الدمشقي: وعلامة التعليم أنك إِذا دعوته أجاب، وإِذا أسَّدته استأسد، ومضى في طلبه، وإِذا أمسك أمسك عليك لا على نفسه، وعلامة إِمساكه عليك: أن لا يأكل منه شيئاً، هذا في السباع والكلاب، فأما تعليم جوارح الطير فبخلاف السباع، لأن الطائر إِنما يُعلّم الصيد بالأكل، والفهد، والكلب، وما أشبههما يعلمون بترك الأكل، فهذا فرق ما بينهما.
وفي قوله: {مكلبين} ثلاثة أقوال.
أحدها: أنهم أصحاب الكلاب، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول ابن عمر، وسعيد بن جبير، وعطاء، والضحاك، والسدي، والفراء، والزجاج، وابن قتيبة. قال الزجاج: يقال رجل مكلّب وكلاّبي، أي: صاحب صيد بالكلاب.
والثاني: أن معنى {مكلبين}: مُصرّين على الصيد، وهذا مروي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد.
والثالث: ان {مكلبين} بمعنى: معلمين. قال أبو سليمان الدمشقي: وإِنما قيل لهم: مكلبين، لأن الغالب من صيدهم إِنما يكون بالكلاب.
قال ثعلب: وقرأ الحسن، وأبو رزين: مُكْلِبين، بسكون الكاف، يقال: أكلب الرجل: إِذا كثرت كلابه، وأمشى: إِذا كثرت ماشيته، والعرب تدعو الصائد مكلّبا.
قوله تعالى: {تعلمونهن مما علمكم الله} قال سعيد بن جبير: تؤدّبونهن لطلب الصيد. وقال الفراء: تؤدّبونهن أن لا يأكلن صيدهن. واختلفوا هل إِمساك الصائد عن الأكل شرط في صحة التعليم أم لا؟ على ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه شرط في كل الجوارح، فان أكلت، لم يؤكل، روي عن ابن عباس، وعطاء.
والثاني: أنه ليس بشرط في الكل، ويؤكل وإِن أكلت، روي عن سعد ابن أبي وقاص، وابن عمر، وأبي هريرة، وسلمان الفارسي.
والثالث: أنه شرط في جوارح البهائم، وليس بشرط في جوارح الطير، وبه قال الشعبي، والنخعي، والسدي، وهو أصح لما بيّنا أن جارح الطير يعلم على الأكل، فأبيح ما أكل منه، وسباع البهائم تعلم على ترك الأكل، فأبيح ما أكلت منه.
فعلى هذا إِذا أكل الكلب والفهد من الصيد، لم يبحْ أكله. فأما ما أكل منه الصقر والبازي، فمباح، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه، وقال مالك: يباح أكل ما أكل منه الكلب، والفهد، والصقر، فإن قتل الكلب، ولم يأكل، أُبيح.
وقال أبو حنيفة: لا يباح، فان أدرك الصيد، وفيه حياة، فمات قبل أن يذكيه، فإن كان ذلك قبل القدرة على ذكاته أُبيح، وإِن أمكنه فلم يذكّه، لم يبحْ، وبه قال مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يباح في الموضعين.
فأما الصيد بكلب المجوسي، فروي عن أحمد أنه لا يكره، وهو قول الأكثرين، وروي عنه الكراهة، وهو قول الثوري لقوله تعالى: {وما علمتم من الجوارح} وهذا خطاب للمؤمنين. قال القاضي أبو يعلى: ومنع أصحابنا الصيد بالكلب الأسود، وإِن كان معلماً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله، والأمر بالقتل: يمنع ثبوت اليد، ويبطل حكم الفعل، فيصير وجوده كالعدم، فلا يباح صيده.
قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} قال الأخفش: من زائدة، كقوله: {فيها من برد} [النور: 43].
قوله تعالى: {واذكروا اسم الله عليه} في هاء الكناية قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى الإِرسال، قاله ابن عباس، والسدي، وعندنا أن التسمية شرط في إِباحة الصيد.
والثاني: ترجع إِلى الأكل فتكون التسمية مستحبّة.
قوله تعالى: {واتقوا الله} قال سعيد بن جبير: لا تستحلوا ما لم يذكر اسم الله عليه.


قوله تعالى: {اليوم أُحل لكم الطيبات} قال القاضي أبو يعلى: يجوز أن يريد باليوم اليوم الذي أنزلت فيه الآية، ويجوز أن يريد اليوم الذي تقدم ذكره في قوله: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم}، وفي قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم}، وقيل: ليس بيوم معيّن. وقد سبق الكلام في {الطيبات} وإنما كرّر إِحلالها تأكيداً. فأما أهل الكتاب، فهم اليهود والنصارى. وطعامُهم: ذبائحهم، هذا قول ابن عباس، والجماعة. وإِنما أريد بها الذبائح خاصّة، لأن سائر طعامهم لا يختلف بمن توَّلاه من مجوسي وكتابي، وإِنما الذكاة تختلف، فلما خصّ أهل الكتاب بذلك، دل على أن المراد الذبائح، فأما ذبائح المجوس، فأجمعوا على تحريمها. واختلفوا في ذبائح من دان باليهودية والنصرانية من عبدة الأوثان، فروي عن ابن عباس أنه سُئل عن ذبائح نصارى العرب، فقال: لا بأس بها، وتلا قوله: {ومن يتولهم منكم فانه منهم} [المائدة: 51] وهذا قول الحسن، وعطاء بن أبي رباح، والشعبي، وعكرمة، وقتادة، والزهري، والحكم، وحماد. وقد روي عن علي، وابن مسعود في آخرين أن ذبائحهم لا تحل. ونقل الخرقي عن أحمد في نصارى بني تغلب روايتين.
إِحداهما: تباح ذبائحهم، وهو قول أبي حنيفة، ومالك.
والثانية: لا تباح. وقال الشافعي: من دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن، لم يبح أكل ذبيحته.
قوله تعالى: {وطعامكم حِلٌ لهم} أي: وذبائحكم لهم حلال، فاذا اشتروا منا شيئاً كان الثمن لنا حلالاً، واللحم لهم حلالاً. قال الزجاج: والمعنى: أُحل لكم أن تطعموهم.
فصل:
وقد زعم قوم أن هذه الآية اقتضت إِباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقاً وإِن ذكروا غير اسم الله عليها، فكان هذا ناسخاً لقوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 121] والصحيح أنها أطلقت إِباحة ذبائحهم، لأن الأصل أنهم يذكرون الله، فيُحمل أمرهم على هذا. فإن تيقنّا أنهم ذكروا غيره، فلا نأكل، ولا وجه للنسخ، وإِلى هذا الذي قلته ذهب علي، وابن عمر، وعبادة، وأبو الدرداء، والحسن في جماعة.
قوله تعالى: {والمحصنات من المؤمنات} فيهن قولان:
أحدهما: العفائف، قاله ابن عباس. والثاني: الحرائِر، قاله مجاهد.
وفي قوله: {والمحصنات من الذين أُوتوا الكتاب} قولان:
أحدهما: الحرائِر أيضاً، قاله ابن عباس.
والثاني: العفائِف، قاله الحسن، والشعبي، والنخعي، والضحاك، والسدي، فعلى هذا القول يجوز تزويج الحرّة منهن والأمة.
فصل:
وهذه الآية أباحت نكاح الكتابية. وقد روي عن عثمان أنه تزوج نائِلة بنت الفرافصة على نسائه وهي نصرانية. وعن طلحة بن عبيد الله: أنه تزوج يهودية. وقد روي عن عمر، وابن عمر كراهة ذلك. واختلفوا في نكاح الكتابية الحربية، فقال ابن عباس: لا تحل، والجمهور على خلافه، وإِنما كرهوا ذلك، لقوله تعالى:
{لا تجدُ قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله} [المجادلة: 22] والنكاح يوجب الود. واختلفوا في نكاح نساء تغلب، فروي عن علي رضي الله عنه الحظر، وبه قال جابر بن زيد، والنخعي، وروي عن ابن عباس الإباحة. وعن أحمد روايتان. واختلفوا في إماء أهل الكتاب، فروي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد: أنه لا يجوز نكاحهن، وبه قال الأوزاعي، ومالك، واللّيث بن سعد، والشافعي، وأصحابنا، وروي عن الشعبي، وأبي ميسرة جواز ذلك، وبه قال أبو حنيفة. فأما المجوس، فالجمهور على أنهم ليسوا بأهل كتاب، وقد شذّ من قال: إِنهم أهل كتاب، ويبطل قولهم قولُه عليه السلام: «سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب» فأما الأجور، والإِحصان، والسّفاح، والأخدان فقد سبق في سورة النساء.
قوله تعالى: {ومن يكفر بالإِيمان فقد حبط عمله} سبب نزول هذا الكلام: أن الله تعالى لما رخَّص في نكاح الكتابيات قلن بينهن: لولا أن الله تعالى قد رضي علينا، لم يبح للمؤمنين تزويجنا، وقال المسلمون: كيف يتزوّج الرجل منا الكتابية، وليست على ديننا، فنزلت: {ومن يكفر بالإِيمان فقد حبط عمله} رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال مقاتل بن حيّان: نزلت فيما أحصن المسلمون من نساء أهل الكتاب، يقول: ليس إِحصان المسلمين إِياهن بالذي يخرجهن من الكفر. وروى ليث عن مجاهد: ومن يكفر بالإِيمان، قال: الإِيمان بالله تعالى. قال الزجاج: معنى الآية: من أحل ما حرّم الله، أو حرّم ما أحلّه الله، فهو كافر. وقال أبو سليمان: من جحد ما أنزله الله من شرائِع الإِيمان، وعرفه من الحلال والحرام، فقد حبط عمله المتقدّم. وسمعت الحسن بن أبي بكر النيسابوري الفقيه يقول: إِنما أباح الله عز وجل الكتابيات، لأن بعض المسلمين قد يعجبهن حسنهن، فَحَذَّر ناكحهنَّ من الميل إِلى دينهن بقوله: {ومن يكفر بالإِيمان فقد حبط عمله}.


قوله تعالى: {إِذا قمتم إِلى الصلاة} قال الزجاج: المعنى: إِذا أردتم القيام إِلى الصلاة كقوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} [النحل: 98] قال ابن الأنباري: وهذا كما تقول: إذا آخيت فآخ أهل الحسب، وإِذا اتجرت فاتجر في البزّ. قال: ويجوز أن يكون الكلام مقدّماً ومؤخراً، تقديره: إِذا غسلتم وجوهكم، واستوفيتم الطهور، فقوموا إِلى الصلاة. وللعُلماء في المراد بالآية قولان:
أحدهما: إِذا قمتم إِلى الصلاة محدثين، فاغسلوا، فصار الحدث مضمراً في وجوب الوضوء، وهذا قول سعد بن أبي وقاص، وأبي موسى الأشعري، وابن عباس، والفقهاء.
والثاني: أن الكلام على إِطلاقه من غير إِضمار، فيجب الوضوء على كل من يريد الصلاة، محدثاً كان، أو غير محدث، وهذا مروي عن علي رضي الله عنه، وعكرمة، وابن سيرين. ونقل عنهم أن هذا الحكم غير منسوخ، ونقل عن جماعة من العلماء أن ذلك كان واجباً، ثم نسخ بالسنّة، وهو ما روى بُريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح خمس صلوات بوضوءٍ واحدٍ، فقال له عمر: لقد صنعت شيئاً لم تكن تصنعه؟ فقال «عمداً فعلته يا عمر» وقال قوم: في الآية تقديم وتأخير، ومعناها: إِذا قمتم إِلى الصلاة من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء، فاغسلوا وجوهكم.
قوله تعالى: {وأيديكم إِلى المرافق} {إِلى} حَرْفٌ موضوعٌ للغاية، وقد تدخل الغاية فيها تارة، وقد لا تدخل، فلما كان الحدث يقيناً، لم يرتفع إِلا بيقين مثله، وهو غسل المرفقين. فأما الرأس فنقل عن أحمد وجوب مسح جميعه، وهو قول مالك، وروي عنه: يجب مسح أكثره، وروي عن أبي حنيفة روايتان.
إِحداهما: أنه يتقدّر بربع الرأس.
والثانية: بمقدار ثلاث أصابع.
قوله تعالى: {وأرجلكم إِلى الكعبين} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: بكسر اللام عطفاً على مسح الرأس، وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم، ويعقوب: بفتح اللام عطفاً على الغَسل، فيكون من المقدم والمؤخّر. قال الزجاج: الرِّجل من أصل الفخذ إِلى القدم، فلما حدّ الكعبين، عُلمَ أن الغسل ينتهي إِليهما، ويدل على وجوب الغَسل التحديد بالكعبين، كما جاء في تحديد اليد {إِلى المرافق} ولم يجئ في شيء من المسح تحديد. ويجوز أن يراد الغسل على قراءة الخفض، لأن التحديد بالكعبين يدل على الغسل، فينسق بالغسل على المسح. قال الشاعر:
يا ليتَ بَعْلك قد غدا *** متقلِّداً سيفاً ورُمحاً
والمعنى: وحاملاً رمحاً. وقال الآخر:
علفتها تبناً وماءً بارِداً ***
والمعنى: وسقيتها ماءً بارداً. وقال أبو الحسن الأخفش: يجوز الجرّ على الإِتباع، والمعنى: الغسل، نحو قولهم: جحر ضبٍ خربٍ، وقال ابن الأنباري: لما تأخّرت الأرجل بعد الرؤوس، نسقت عليها للقرب والجوار، وهي في المعنى نسق على الوجوه، كقولهم: جحر ضبٍّ خَربٍ، ويجوز أن تكون منسوقة عليها، لأن العرب تسمّي الغسل مسحاً، لأن الغسل لا يكون إِلا بمسح.
وقال أبو علي: مَن جرّ فحُجَّتُه أنه وجد في الكلام عاملين: أحدهما: الغسل، والآخر: الباء الجارّة، ووجه العاملين إِذا اجتمعا: أن يحمل الكلام على الأقرب منهما دون الأبعد، وهو الباء هاهنا، وقد قامت الدلالة على أن المراد بالمسح: الغسل من وجهين.
أحدهما: أن أبا زيد قال: المسح خفيف الغسل، قالوا: تمسحت للصلاة، وقال أبو عبيدة: فطفق مسحاً بالسوق، أي: ضرباً، فكأن المسح بالآية غسل خفيف. فإن قيل: فالمستحب التكرار ثلاثاً؟ قيل: إِنما جاءت الآية بالمفروض دون المسنون.
والوجه الثاني: أن التحديد والتوقيت إِنما جاء في المغسول دون الممسوح، فلما وقع التحديد مع المسح، عُلم أنه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد، وحجة من نصب أنه حَمل ذلك على الغسل لاجتماع فُقهاء الأمصار على الغسل.
قوله تعالى: {إِلى الكعبين} {إِلى} بمعنى مع والكعبان: العظمان الناتئان من جانبي القدم.
قوله تعالى: {وإِن كنتم جنباً فاطّهروا} أي: فتطهروا، فأدغمت التاء في الطاء، لأنهما من مكان واحد، واجتلبت الهمزة توصّلاً إِلى النطق بالساكن، وقد بين الله عز وجل طهارة الجنب في سورة النساء بقوله: {حتى تغتسلوا} [النساء: 43] وقد ذكرنا هناك الكلام في تمام الآية إِلى قوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} والحرج: الضيق، فجعل الله الدين واسعاً حين رخّص في التيمم.
قوله تعالى: {ولكن يريد ليطهركم} أي: يريد أن يطهركم. قال مقاتل: من الأحداث والجنابة، وقال غيره: من الذنوب والخطايا لأن الوضوء يكفر الذنوب.
قوله تعالى: {وليتم نعمته عليكم} في الذي يتمُّ به النعمة أربعة أقوال.
أحدها: بغفران الذنوب. قال محمد بن كعب القرظي: حدثني عبد الله بن دارة، عن حمران قال: مررت على عثمان بفخّارةٍ من ماءٍ، فدعا بِها فتوضأ، فأحسن الوضوء ثم قال: لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة أو مرّتين أو ثلاثاً ما حدثتكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما توضأ عبد فأحسن الوضوء، ثم قام إِلى الصلاة، إِلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى» قال محمد بن كعب: وكنت إِذا سمعت الحديث التمسته في القرآن، فالتمست هذا فوجدته في قوله تعالى: {إِنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخّر ويتمَّ نعمته عليك} [الفتح: 1، 2] فعلمت أن الله لم يتم النعمة عليه حتى غفر له ذنوبه، ثم قرأت الآية التي في المائدة: {إِذا قمتم إِلى الصلاة} إِلى قوله: {وليتم نعمته عليكم} فعلمت أنه لم يتم النعمة عليهم حتى غفر لهم.
والثاني: بالهداية إِلى الإِيمان، وإِكمال الدين، وهذا قول ابن زيد.
والثالث: بالرخصة في التيمم، قاله مقاتل، وأبو سليمان.
والرابع: ببيان الشرائِع، ذكره بعض المفسّرين.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8